تابعوني على فيس بوك

السبت، 22 نوفمبر 2008

كوسة



- خطأ... هذا الأمر لم يكن ينبغي له أبدا أن يعالج هكذا!! من الذي أنجز هذا العمل؟؟!
وبمجرد سماعي لصوته الجهوري أدركت أني المقصود بالكلام ... ومن غيري؟!
- إنه أنا يا سيدي .. أنا الذي قمت بهذا العمل.
- أنت !! دائما أنت!! ... ألن تتعلم أبدا ؟؟؟ ستظل دائما ترتكب هذه الأخطاء الفادحة... لماذا لم تتبع ما علمتك إياه أيها الغبي؟؟!
- ولكن ... ولكن يا سيدي أنا لم أفعل سوى ما وجهتني سيادتك لفعله وما علمتني إياه عندما بدأت العمل هنا و...
قاطعني صوته الهادر وهو يصرخ :
- وأيضا تجادل وتكذب .. عندما أتحدث لا يجب أن ترد يا أفندي! .. ولا تنس أنك لا زلت في فترة الاختبار أي أنه يمكنني أن أكتب تقريرا يصي بعدم صلاحيتك للعمل كما يمكنني إحالتك للتحقيق و......
وصممت أذني عن باقي إسطوانة التقريع المعهودة التي أعرفها جيدا والتي لم أسمع سواها منذ استلمت عملي بهذه الجهة الحكومية المرموقة، والتي لا يعمل بها في الغالب إلا ذوي الوساطة والمعارف القوية جدا جدا، وإنما جاء عملي أنا بها من قبيل الصدفة البحتة أو كما يقولون (ربك لمّا يريد!!).
لقد تخرجت في إحدى كليات القمة منذ أكثر من أربع سنوات، وكنت وقتها أظن أن مؤهلي الجامعي وتقديري العالي سيعوضان فقري وإنعدام معارفي من ذوي الحيثية، وانطلقت أبحث بكل قوتي وقروشي القليلة، وتقدمت لكل الأعمال المناسبة لمؤهلي سواء كانت قطاع عام أو خاص وفوجئت بالنتيجة وهي الفشل الذريع ... وصُدمت بالطبع و لكني لم أيأس. وبدأت أبحث من جديد عن أي عمل عادي يمنحني راتبا يمكني من خلاله زيادة قدراتي بالحصول على دورات في الكمبيوتر واللغات، وحينما فشلت أيضا في ذلك ونفذت قروشي القليلة - مع علمي بعدم إمكانية أسرتي تحمل المزيد من الأعباء – قبلت العمل تارة كبائع في محل ملابس و أخرى كموظف أمن وثالثة كمسئول عن قسم البقالة بأحد محلات السوبر ماركت .....
لم توقفني نظرات الشفقة في عيون البعض، والشماتة في عيون البعض الآخر .... لم يوقفني تخلي خطيبتي عنى لأنها أشفقت على نفسها من طول المشوار ... تألمت وتعذبت ولكني لم أتراجع عن حلمي البسيط بأن أجد لي مكانا يليق بعلمي وثقافتي وإمكانياتي علي أرض وطني ...
وبالفعل أخذت في رفع قدراتي بالحصول على الدورات المختلفة، كما عدت لمواصلة الدراسة للحصول على الماجستير، وبجوار كل ذلك لم أتوقف عن البحث .. ولم تتغير النتيجة!!
وبالطبع كانت تنتابني كل فترة حالة من الاكتئاب واليأس والإحساس بالعجز، ولكني لم أكن أسمح لها بأن تدوم لأكثر من أيام معدودة، فالفقر لا يسمح لك عادة برفاهية الاحتجاج أكثر من ذلك!
ومضت الأيام و أنا أقابل فشلا تلو الآخر في الحصول على عمل لائق، ودون أن أنجح حتى في إدخار أي مبلغ من المال لأن كل ما أعمل به كنت أنفقه في البحث عن عمل، و الحصول علي الدورات التدريبية المختلفة بالإضافة إلى الاحتفاظ علي الأقل بطاقم مناسب من الثياب يضمن لي مظهرا لائقا عند التقدم لأي وظيفة.
ملخص القول أنه بعد مضي أربع سنوات كاملة على تخرجي قابلت بالصدفة أحد زملاء الدراسة القدامى والذي استطاع بإتصالاته الحصول علي وظيفة مرموقة بتلك الهيئة الحكومية المميزة والتي تتبع أعلى الجهات في الدولة، وأخبرني زميلي أنه توجد فرصة للحصول علي وظيفة مماثلة وأن إعلانا داخليا قد تم نشره بهذا الشأن، وأنني إذا أردت يمكنني التقدم وإن كانت فرصتي ضعيفة لأن من بين المتقدمين لهذه الوظيفة ابن فلان بك وابنة فلانة هانم و .....
وأذهلتني الأسماء التي سمعتها، ولكني لم أتردد فقد اعتدت أن أقوم بواجبي، وأترك الباقي علي الله .
وتقدمت للاختبار، وأنا أعلم مسبقا أنني لن أُقبل في هذه الوظيفة، ولكني اجتهدت في الحل علي مدى ثلاث ساعات هي مدة الاختبار ...
ومضت عدة شهور على هذه الواقعة، ثم فوجئت بزميلي المذكور يتصل بي تليفونيا ليخبرني بأنه قد تم اختياري للوظيفة!!
وظننت في البداية أنه يمزح و لكنه أقسم لي أنها الحقيقة قائلا:
- لا أدري كيف حدث هذا ؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ...ولكنك فزت بالوظيفة ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!!..مبـــارك يا رجل!‍‍‍!
وتهللت فرحا، وتقافزت في الهواء ... وأخذت أضحك تارة وأبكي تارة أخرى كالمجاذيب ... والتفت إلي أمي أغمرها بالقبلات .. لقد أنصفني الزمان بعد طول عناء ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!!...
ولم تدم فرحتي طويلا، فمنذ اليوم الأول استقبلني رئيسي بابتسامته الصفراء التي لم أتفاءل بها أبدا، ومنذ ذلك الحين وهو يكيل لي الإهانات والتهديدات بفصلي وكتابة التقارير السوداء في حقي رغم اجتهادي الشديد في عملي الذي نلته بعد طول انتظار.
وكل مرة كنت أحاول تجنب غضبه بالتدقيق أكثر في عملي، والاستماع لملحوظاته وتنفيذها حتى وإن كنت أجدها أحيانا سخيفة، ولكن دون جدوى للأسف ‍‍‍‍‍!! ... فكل خطأ لابد وأن يكون خطأي وحدي ... وكل مشكلة لابد وأن أكون أنا سببها الرئيسي...
وبتدقيق الملاحظة والتقاط الكلام الذي يتناثر هنا وهناك علمت سبب معاملة رئيسي السيئة لي وهو أنني الوحيد في إدارته الذي يعمل بدون وساطة أو معرفة بشخصية مرموقة بينما الآخرين ليسوا كذلك والمثل الشهير يقول ( اللي له ضهر ....) تعلمون الباقي بالطبع!!
وهكذا فمديري العزيز لا يمكنه أن يلوم أي من زملائي على خطئه، كما لا يستطيع محادثتهم بطريقة غير لائقة، ولكن بالنسبة لي الأمر مختلف بالطبع!!
كما علمت أن الصدفة الغريبة التي جعلتني أفوز بالوظيفة هي أنهم قد خشوا تعييين ابن فلان بك فتغضب فلانة هانم، أو تعيين ابنة فلانة هانم فيغضب فلان بك. وهكذا اضطروا لاعتماد نتيجة الاختبار الحقيقية لأن المكان المتاح كان لموظف واحد فقط، وبهذا يحدث تعادل لكلا الطرفين ويتخيل كل منهما أن من حصل على الوظيفة جاء عن طريق سلطة أعلى منهما ‍‍‍!!
قد لا تصدقوني ... ولكنها الحقيقة العارية ... هكذا تسير الأمور في بلدنا صاحب الحضارة العريقة والتاريخ الطويل!!
والأدهى من ذلك أنه بعد مضي بضعة أشهر من الويل والعذاب رحمني الله من ذلك المدير الذي يكرهني بلا سبب عندما تم نقله خارج القاهرة لكي يحصل علي منصبه آخر يحمل سلطة ومعارف أعلى منه ...
والعجيب أنه قبل رحيله من المكتب لآخر مرة أخذ يهلل قائلا:
- لا يوجد عدل في هذا الزمان ... لقد أصبحت (الكوسة) هي التي تتحكم في كل شئ!!
ولكني أخشى ألا تكتمل فرحتي هذه المرة أيضا فقد سمعت أن مديري الجديد له ابن يحمل نفس مؤهلي، وأنه يتمنى لو يحصل ولده علي وظيفة في نفس إدارته .... وأدركت صحة مخاوفي عندما دخل المدير الجديد في الصباح ، وكان أول ما سأل عنه وهو يكشر عن أنيابه هو :
-أين المـــوظف الجدييييد!!

- ألم أقل لكم؟؟؟

هناك 22 تعليقًا:

blue-wave يقول...

اسلوب سرد مميز
اعجبنى بشدة
تحياتى

حاجــ عيال ــات يقول...

روز الجميلة أسعدني إني أول تعليق
والقصة جيدة ولكن ليا ملاحظة
القصة انت تناولتيها بلغة فصيحة
لية الكلمة الدارجة تعنونها
حاولي تفكري في تغيير اسم القصة ولو بنفس المعنى بس مصطلح تاني أنسب
سلام مؤقت

mohamed ghalia يقول...

لا اعلم ماس هذا النبات (الكوسه)الذى يدخل فى كل مجالات الحياة
تحياتى على الصياغة الرائعة
دمتى بكل الود

مفكر يقول...

السلام عليكم::

الموضوع يتناول كوسة انتشرت في البلد كالوباء،،،

استوقفتني هذه العبارة::

فالفقر لا يسمح لك عادة برفاهية الاحتجاج أكثر من ذلك!
،،،،

دمتي بألف خير

أمل حمدي يقول...

اسلوب رائع ومشوق

ولغة ماشاء الله

واحداث رغم مرارتها ولكنها تبعث بالامل

تارة والقهر مرة اخري

ولكن الاصرار رغم كل المعوقات سيكون سبيل النجاح

تسلم ايدك يا علا

La RoSe يقول...

جميل يا روزة

بقيت أستنى كتاباتك :)

وإن كان أسلوب التقريري في السرد يعني خلاها شوية طويلةوبنبقى عايزين نتخطى الأسطر بسرعة عشان نوصل للنهاية،لكن الحبكة بأكملها جميلة،وأنتي فعلاً بتتقدمي بشكل جميل..

تحياتي لكي :)

Kiara يقول...

اسلوبك بجد يشد اوي

الله عليكي

شيماء زايد يقول...

ادمنت مدونتك بالفعل
واصبحت ملاذي عندما لا اجد ملاذ اخر
والجميل ان مدونتك لا تخذلني ابدا
انتي اديبه كبيره
ربنا يوفقك
وقريبا سوف تقرأ كتبك ومجموعاتك القصصيه
بالنسبه للقصه (الكوسه) خفة دم مصريه جميله اضافت لها رونق خاص
تحياتي

kh يقول...

صياغه مميزه لمثل هذا الموضوع
تحياتى فقد أوصلت فعلا المعنى المطلوب
أحييك فعلا على الكلام الجميل

يمكن مراسلتى على مدونتى

http://successka.blogspot.com/

موناليزا يقول...

احييكى على قدرتك على السرد

الازهرى يقول...

العزيزة وردة بيضا

ابداع
لا بل اكثر من ذلك
القصة متتابعة وسلسة وشيقة واسلوبها بسيط ومعبر للغاية
للاسف الشديد القصة بها الكثير من الحقيقة وارجوا ان يكون هناك تغيير فى الطريق والا فهو الانهيار

تحياتى دوما

الوردة البيضا يقول...

blue wave
شرفتني يا د. عمرو، ويسعدني أن أعجبك ما قرأت.
وأتمنى أن تشرفني دائما بالزيارة
تحياتي

الوردة البيضا يقول...

حاجات عيال
معلش فرقت معاكي بنط، وطلع تعليقك هو التاني.
بالنسبة لملحوظتك على العنوان، فأناأرى أنه لا يوجد ما يمنع عند الكتابة بالعربيةإدراج كلمة أو أكثر باللغة العامية الدارجة إذا دعت الحاجة لذلك، وفي رأيي المتواضع "كوسة"هي الكلمة الوحيدة المناسبة للتعبير عما أردت توصيله، والذي يعرفه الجميع في مصر.

نورتيني وشرفتيني
ومستنياكي دايما

الوردة البيضا يقول...

صديقي محمد غالية
أشكرك على مرورك المتميز

دمت بكل الود

الوردة البيضا يقول...

مفكر
أهلا بك يا دكتور من جديد، وبالنسبة للعبارة التي استوقفتك أراها أنا أيضا من أقوى العبارات في القصة.
أشكرك على اهتمامك وقراءتك المتمعنة
وتمنياتي لك بالتوفيق

الوردة البيضا يقول...

ماما أمولة
أشكرك جزيل الشكر على كلماتك المشجعة ورأيك الإيجابي،وهكذا الحياة نتأرجح فيها دائما بين الأمل واليأس، ولابد من الإصرار لنيل الآمال

خالص تحياتي لك، وشرفتيني بمرورك المتميز

الوردة البيضا يقول...

la Rose
يا عزيزتي أنا التي تنتظر تعليقاتك الجميلة، وأشكرك على مرورك وتشجيعك.

تحياتي

الوردة البيضا يقول...

مولان:
الف شكر يا جميل، وشرفتيني

وأتمنى ألا تكون زيارة عابرة

الوردة البيضا يقول...

شيماء زايد:
يسعدني ويشرفني أن تكون مدونتي المتواضعة مقصدك.. أهلا بك والمدونة تساع من الحبايب الف زي ما بيقولوا ولاد البلد

مرسي جدا يا شيماء على تشجيعك ليا، وأتمنى من الله أن أستطيع نشر هذه القصص يوما في مجموعة قصصية تحمل اسمي كما قلت.
أراك على خير

الوردة البيضا يقول...

KH
نورتنا بزيارتك، وقد دخلت على مدونتك بالفعل وتركت تعليقي هناك.

أشكرك على كلماتك الرقيقة
وفي انتظارك دوما

الوردة البيضا يقول...

موناليزا
أشكرك على تحيتك وعلى زيارتك الجميلة

ويا رب تكرريها كتييييييييير

الوردة البيضا يقول...

صديقي الأزهري
جمد الله على السلامة، ووجهي يحمر خجلا من كل هذا الإطراء.. أشكرك يا صديقي على زيارتك وتشجيعك.

وتمنياتي لك بالتوفيق