عم السكون والهدوء التام أركان المنزل الصغير المرتب، إلا من الدقات الرتيبة للساعة الكبيرة المعلقة على الحائط، إلى أن شق الصمت صوت خطوات بطيئة لسيدة مسنة تبدو على ملامحها الطيبة والحزن النبيل، وبقايا جمال لافت.
اتجهت السيدة مباشرة نحو منتصف ردهة المنزل الخاوية من البشر، حيث استقرت على مقعد هزاز يجاور منضدة صغيرة عليها مسجل قديم تأملته السيدة للحظة قبل أن تمد أصابعها لتديره، ثم تعود لتستند على ظهر المقعد.
وانطلق في خفوت من المسجل القديم صوت كوكب الشرق أم كلثوم وهي تشدو بإحدى روائعها: "أنا في انتظارك خليت ناري في ضلوعي وحطيت إيدي على خدي وعديت بالثانية غيابك ولا جيت...."
وشردت السيدة وهي تستمع لأغنيتها المفضلة، وانطلقت بعقلها في جولة بين الذكريات التي اختلطت بكلمات الأغنية لترسم على وجهها الصافي تعبيرات صامتة، لكنها تنطق بالفرحة تارة وبالأحزان واللوعة تارة أخرى.
تذكرت لقاءها الأول بحبيب عمرها منذ أكثر من ثلاثين عاما، عندما ذهبت لاستلام العمل في إحدى الشركات بعد تخرجها، وكان هو زميلها بنفس المكتب، واستقبلها بابتسامة ساحرة أزالت عنها كل توترها، وسرعان ما نسج الحب خيوطه الحريرية لتربط بين قلبيهما في شهور قليلة...
تذكرت كيف رفضت أسرتها ارتباطها بذلك الشاب الفقير الذي لا يزال يخطو خطواته الأولى في الحياة.. أشفق عليها والديها من اختبار قسوة الحياة، وهما من اجتهدا طوال حياتهما لتوفير حياة كريمة قدر الإمكان لها ولإخواتها، لكنها أصرت بمنتهى الحزم على اختيارها له، وأخبرت أهلها أنها لن ترضى بغيره شريكا لحياتها، وأنها لن تنتظر منهم أيه مساعدة على تنفيذ قرارها سوى مباركته.
وارتسمت على شفتيها المتعبتين ابتسامة رائعة عندما رأت طيفها هي وخطيبها – آن ذاك – وهما يخطوان خطواتهما الأولى داخل هذه الشقة الصغيرة التي كانت في ذلك الحين خاوية على عروشها، لكنها كانت بالنسبة لها أجمل قصر سيضمها مع من أحبت واختارت... تذكرت نظراته الخجلة المليئة بالامتنان وهو يعتذر لها عن ضعف إمكاناته، وعدم قدرته على تجهيز المنزل بالشكل اللائق، وكيف طمأنته أنها معه ولن تتخلى عنه حتى نهاية المشوار.
وابتسمت لهما الحياة... كان زوجها نعم الزوج الحنون التقي... لم يغضبها يوما أو يتنصل من مسئوليته اتجاه أسرته.. لم يكل من العمل ليلا ونهارا لتحسين دخلهما، وحتى في ذروة أي أزمة مالية مرت بهما لم يكن أبدا ليعبس في وجهها أو ينسى شراء الزهور التي يعلم أنها تعشقها وتسعد بها. وهي من جانبها اجتهدت في تدبير أمور المنزل وادخار القروش رويدا رويدا من عمله وعملها حتى نجحت في إكمال ما ينقصهما من أثاث وتجهيزات بالمنزل، وكثيرا ما كانت تفاجئه بقطعة أثاث جديدة اشترتها أو جهاز منزلي لم يستطيعا اقتناءه في البداية.
وازدادت فرحتهما بقدوم طفليهما الواحد تلو الآخر، ورغم اضطرارها في هذه الظروف لترك العمل والتفرغ لتربية الطفلين، إلا أن زوجها لم يشك أبدا من ازدياد الأعباء عليه، ولم تتوان هي أيضا عن استقباله بعد عودته من العمل بكل حبها وحنانها تقديرا منها لكل ما يبذله، ومحاولة لإسعاده ومحو إرهاقه .
ومضت الأيام سريعا، والتحق الطفلان بالمدارس، وزوجها على حاله يتحمل الأعباء كلها وحده، وكلما عرضت عليه أن تعود لعملها لتساعده رفض أن يحملها فوق طاقتها، وأجابها بابتسامته التي طالما عشقتها: " يا زوجتي الحبيبة .. يكفي كل ما تبذليه من جهد لتربية أبنائنا وتدبير أمور حياتنا".
وخانتها دموعها، وهي تتذكر اكتشافها بالصدفة لإصابته بالمرض الخبيث وهو لا يزال في ريعان شبابه، بعد أن حاول كثيرا إخفاء حقيقة الأمر عنها...ذلك المرض اللعين الذي التهم جسد حبيبها وزوجها بلا رحمة، وفي أقل من عام، رغم أنها لم تدخر أي جهد أو مال لعلاجه، خاصة مع تدخل أهلها للمساعدة ، بعد ما رأوه منه طوال السنوات الماضية من شهامة وكرم أخلاق استحق معهما أن يكون زوجا لابنتهما.
ورحل الزوج الشاب، وبقيت هي كجثة متحركة... ذهبت روحها معه، ومع ذلك عليها أن تكمل المشوار، وأن تحمل المسئولية من بعده، وتكمل رسالته التي بدأها مع ابنيهما. وبالفعل عادت إلى العمل وتولت تربية الطفلين وحدها، ورفضت كل محاولات أهلها لإقناعها بالزواج مرة أخرى، فهي لم تنسه لحظة واحدة، ولم تنقطع يوما عن مناجاة صورته الكبيرة المعلقة في غرفتهما ومناقشة كل شئون الأسرة والأبناء معه، لتتخيل ماذا كان سيصبح رأيه في هذا الأمر أو ذاك، ولتشعر دائما بوجوده معها يدفئها ويحميها. كانت تتعجل الأيام حتى تكمل رسالتها على خير ما يرام. وبالفعل مضت السنوات وكبر الولدان، وشق كل منهما طريقه في الحياة، وبقيت هي وحدها في انتظار ساعة اللقاء... تستيقظ كل يوم متلهفة على قطع ورقة النتيجة المعلقة على الحائط والتي تنقص يوما آخر من أيام الانتظار، ثم تجلس في مقعدها الهزاز لتستمع إلى نفس الأغنية وتسرح في ذكرياتها مع حبيبها..
انتهت الأغنية، وعم الصمت من جديد، ومضت ساعات دون أن تتحرك السيدة التي أغلقت عينيها وارتسم السلام والاطمئنان على وجهها..
وبدا أن انتظارها قد انتهى.
اتجهت السيدة مباشرة نحو منتصف ردهة المنزل الخاوية من البشر، حيث استقرت على مقعد هزاز يجاور منضدة صغيرة عليها مسجل قديم تأملته السيدة للحظة قبل أن تمد أصابعها لتديره، ثم تعود لتستند على ظهر المقعد.
وانطلق في خفوت من المسجل القديم صوت كوكب الشرق أم كلثوم وهي تشدو بإحدى روائعها: "أنا في انتظارك خليت ناري في ضلوعي وحطيت إيدي على خدي وعديت بالثانية غيابك ولا جيت...."
وشردت السيدة وهي تستمع لأغنيتها المفضلة، وانطلقت بعقلها في جولة بين الذكريات التي اختلطت بكلمات الأغنية لترسم على وجهها الصافي تعبيرات صامتة، لكنها تنطق بالفرحة تارة وبالأحزان واللوعة تارة أخرى.
تذكرت لقاءها الأول بحبيب عمرها منذ أكثر من ثلاثين عاما، عندما ذهبت لاستلام العمل في إحدى الشركات بعد تخرجها، وكان هو زميلها بنفس المكتب، واستقبلها بابتسامة ساحرة أزالت عنها كل توترها، وسرعان ما نسج الحب خيوطه الحريرية لتربط بين قلبيهما في شهور قليلة...
تذكرت كيف رفضت أسرتها ارتباطها بذلك الشاب الفقير الذي لا يزال يخطو خطواته الأولى في الحياة.. أشفق عليها والديها من اختبار قسوة الحياة، وهما من اجتهدا طوال حياتهما لتوفير حياة كريمة قدر الإمكان لها ولإخواتها، لكنها أصرت بمنتهى الحزم على اختيارها له، وأخبرت أهلها أنها لن ترضى بغيره شريكا لحياتها، وأنها لن تنتظر منهم أيه مساعدة على تنفيذ قرارها سوى مباركته.
وارتسمت على شفتيها المتعبتين ابتسامة رائعة عندما رأت طيفها هي وخطيبها – آن ذاك – وهما يخطوان خطواتهما الأولى داخل هذه الشقة الصغيرة التي كانت في ذلك الحين خاوية على عروشها، لكنها كانت بالنسبة لها أجمل قصر سيضمها مع من أحبت واختارت... تذكرت نظراته الخجلة المليئة بالامتنان وهو يعتذر لها عن ضعف إمكاناته، وعدم قدرته على تجهيز المنزل بالشكل اللائق، وكيف طمأنته أنها معه ولن تتخلى عنه حتى نهاية المشوار.
وابتسمت لهما الحياة... كان زوجها نعم الزوج الحنون التقي... لم يغضبها يوما أو يتنصل من مسئوليته اتجاه أسرته.. لم يكل من العمل ليلا ونهارا لتحسين دخلهما، وحتى في ذروة أي أزمة مالية مرت بهما لم يكن أبدا ليعبس في وجهها أو ينسى شراء الزهور التي يعلم أنها تعشقها وتسعد بها. وهي من جانبها اجتهدت في تدبير أمور المنزل وادخار القروش رويدا رويدا من عمله وعملها حتى نجحت في إكمال ما ينقصهما من أثاث وتجهيزات بالمنزل، وكثيرا ما كانت تفاجئه بقطعة أثاث جديدة اشترتها أو جهاز منزلي لم يستطيعا اقتناءه في البداية.
وازدادت فرحتهما بقدوم طفليهما الواحد تلو الآخر، ورغم اضطرارها في هذه الظروف لترك العمل والتفرغ لتربية الطفلين، إلا أن زوجها لم يشك أبدا من ازدياد الأعباء عليه، ولم تتوان هي أيضا عن استقباله بعد عودته من العمل بكل حبها وحنانها تقديرا منها لكل ما يبذله، ومحاولة لإسعاده ومحو إرهاقه .
ومضت الأيام سريعا، والتحق الطفلان بالمدارس، وزوجها على حاله يتحمل الأعباء كلها وحده، وكلما عرضت عليه أن تعود لعملها لتساعده رفض أن يحملها فوق طاقتها، وأجابها بابتسامته التي طالما عشقتها: " يا زوجتي الحبيبة .. يكفي كل ما تبذليه من جهد لتربية أبنائنا وتدبير أمور حياتنا".
وخانتها دموعها، وهي تتذكر اكتشافها بالصدفة لإصابته بالمرض الخبيث وهو لا يزال في ريعان شبابه، بعد أن حاول كثيرا إخفاء حقيقة الأمر عنها...ذلك المرض اللعين الذي التهم جسد حبيبها وزوجها بلا رحمة، وفي أقل من عام، رغم أنها لم تدخر أي جهد أو مال لعلاجه، خاصة مع تدخل أهلها للمساعدة ، بعد ما رأوه منه طوال السنوات الماضية من شهامة وكرم أخلاق استحق معهما أن يكون زوجا لابنتهما.
ورحل الزوج الشاب، وبقيت هي كجثة متحركة... ذهبت روحها معه، ومع ذلك عليها أن تكمل المشوار، وأن تحمل المسئولية من بعده، وتكمل رسالته التي بدأها مع ابنيهما. وبالفعل عادت إلى العمل وتولت تربية الطفلين وحدها، ورفضت كل محاولات أهلها لإقناعها بالزواج مرة أخرى، فهي لم تنسه لحظة واحدة، ولم تنقطع يوما عن مناجاة صورته الكبيرة المعلقة في غرفتهما ومناقشة كل شئون الأسرة والأبناء معه، لتتخيل ماذا كان سيصبح رأيه في هذا الأمر أو ذاك، ولتشعر دائما بوجوده معها يدفئها ويحميها. كانت تتعجل الأيام حتى تكمل رسالتها على خير ما يرام. وبالفعل مضت السنوات وكبر الولدان، وشق كل منهما طريقه في الحياة، وبقيت هي وحدها في انتظار ساعة اللقاء... تستيقظ كل يوم متلهفة على قطع ورقة النتيجة المعلقة على الحائط والتي تنقص يوما آخر من أيام الانتظار، ثم تجلس في مقعدها الهزاز لتستمع إلى نفس الأغنية وتسرح في ذكرياتها مع حبيبها..
انتهت الأغنية، وعم الصمت من جديد، ومضت ساعات دون أن تتحرك السيدة التي أغلقت عينيها وارتسم السلام والاطمئنان على وجهها..
وبدا أن انتظارها قد انتهى.