- آ...آييي آى !!
لم أستطع كتمان صرخات الألم بداخلي أكثر من ذلك، ولكن هذا لا يهم فلن يسمعها أحد غيري علي أي حال!
ها هي الإبرة اللعينة تعود لتنغرز في أنسجتي من جديد ...
أما من نهاية لهذا العذاب يا إلهي!!!
ورغم كل آلامي احتملت، وصبرت كالعادة من أجل صديقي (محمد ) .... فأنا أيها السادة البنطلون الوحيد الذي يملكه!
نعم هذه هي الحقيقة، فمنذ تخرج (محمد) العام قبل الماضي من كلية الهندسة بعد عناء سنوات هذه الدراسة العملية – التي تستحق عن جدارة اسم السنوات العجاف – لم ينجح للأسف في العثور علي عمل مناسب، أو حتى غير مناسب ! فحتى عندما تنازل عن أمله في الحصول علي عمل بمؤهله الجامعي، لم يستطع احتمال الإهانات المتواصلة التي كان يتلقاها في أي عمل بسيط من الأعمال العديدة التي التحق بها، من رؤسائه الذين يكاد بعضهم يعجز عن فك الخط! والنتيجة أن كرامته قد أبت عليه أن يكمل العمل لأكثر من أسبوع واحد، ليتركه وهو محطم الآمال، فاقد الثقة في كل ما حوله، من حوله..
ولكن والدته الطيبة كانت تستقبله دائما بكل حبها، وحنانها لترفع من معنوياته وتعيد إليه الأمل، فيعود للبحث من جديد بلا جدوى حتى بليت ملابسه التي لا يملك غيرها، والتي أنا جزء هام منها بالطبع!
انتهت الأم الطيبة من إصلاح الأجزاء التي تمزقت فيّ بفعل القدم، وكثرة الاستخدام... وها أنا بعد الغسيل والكي أصبحت أمت من جديد بصلة لعالم الملابس.
كم فكرت في الانهيار، والاستسلام لتلك الآلام والتمزقات التي تملأني، ولكني كنت أعود وأتذكر (محمد) المسكين الذي لا يملك من حطام الدنيا سواي ، فأضطر للتحامل علي نفسي وأخضع مستسلما لمحاولات الأم المستميتة لرتقي وإعادة رونقي إليّّ .
كنت في أجازة بدأت منذ فترة عندما عاد (محمد) يوما إلي المنزل بعد جولة بحث فاشلة أخرى، وكان يائسا ومحطما حتى أنه قد حبس نفسه في المنزل منذ ذلك الحين، ورفض أية محاولات من أسرته أو أصدقائه لحثه علي الخروج من حجرته، وعدم الاستسلام لليأس حتى لا يدمر نفسه.
ولكن منذ عدة أسابيع زاره أحد أصدقائه، و أخبره نبأَ جعله يتقافز في الهواء من الفرح، فقد أنبأه صديقه هذا بأن أحد أقاربه من الأغنياء قد افتتح فرعا آخر لشركته الهندسية، وعينه هو فيها ، وطلب منه ترشيح عدد من زملائه المهندسين الشباب للعمل معه في هذا الفرع الجديد. وقد وقع اختيار الشاب علي (محمد) ضمن مجموعة المهندسين الذين انتقاهم.
وهكذا، خرج (محمد) من قوقعته، وها هو الآن يستعد للذهاب لعمله بعد أن انتظم فيه، وسعد به جداً لأنه قد أعاد له ثقته في نفسه، وفي قدراته كمهندس، بالإضافة إلي طموحاته وآماله كشاب في مقتبل العمر.
ولكنه اليوم كان أكثر سعادة ومرحاً وهو يداعب أمه قبل الذهاب إلي العمل، فقد كان هذا هو اليوم الموعود ... يوم تسليم الأجور للعاملين بالشركة.
وبالطبع كنت سعيدا من أجله، حتى كدت أبكي من الفرح. ولكن سرعان ما استبد بي القلق، وعصفت بنفسي الهواجس عندما خطر ببالي فجأة أن أول ما سيفعله (محمد) بمجرد استلامه لراتبه الكبير من الشركة هو.....
قطع أفكاري صفير إعجاب طويل انطلق من بين شفتي (محمد)، وهو يتوقف فجأة أمام واجهة أحد المحال التجارية.... وتحولت شكوكي في لحظة إلي يقين ، فقد كان متجرًا للملابس الجاهزة!
وبينما أخذ (محمد) يتأمل بانبهار تلك القمصان والبنطلونات الفاخرة، ويتخيل شياكته وأناقته عندما يرتدي تلك الثياب... كانت الدموع تسيل مني انهاراً، وأنا أتخيل نفسي وقد تحولت إلي خرق قماش بالية تستعملها أم (محمد) في مسح ذرات الغبار من على قطع الأثاث ،أو في تنظيف المطبخ!!
- أهذا هو جزاء إخلاصي و احتمالي طوال تلك السنوات؟!
- أهكذا يكافأ الأصيل في هذا الزمن!!.... واخسارتاه!
....................................................................
- وهكذا يا أطفالي كان تعييني في تلك الشركة هو الخطوة الأولى التي ساعدتني على بناء مستقبلي، وانهال عليّ الخير بعد ذلك بسبب اجتهادي في عملي، وتقدير صاحب العمل لمجهودي، حتى أصبحت أمتلك بدلا من القميص والبنطلون اليتيمين، صواناً كاملا يعج بأحدث صيحات الموضة من الثياب، وودعت أنا وأسرتي أيام الفقر للأبد.
ابتسم (محمد) و هو ينطق بهذه الكلمات موجها إياها لأولاده ، ثم اتجه إلي صوان ملابسه وفتحه مضيفاً:
- ولكني لم أنس ملابسي القديمة، ولم أتخل عنها، فخصصت لها مكاناً دائماً في صوان ملابسي، لكي أتذكر كلما نظرت إليها ما عانيته سابقا ، فيكون هذا حافزاً دائماً لي لمساعدة الشباب الذين يمرون بنفس الظروف التي عايشتها من قبل، ولأن هذه الثياب عزيزة جداً على نفسي، فقد احتملت معي الظروف الصعبة التي مررت بها في بداياتي، قبل أن يرزقني الله بما أرفل فيه من نعم الآن.
امتلأت نفسي بالفخر- وأنا معلق علي مشجب أنيق جنباً إلي جنب مع أحدث الصيحات من الثياب الأنيقة - لأني أنتمي لهذا الرجل ...
الأصيل !
لم أستطع كتمان صرخات الألم بداخلي أكثر من ذلك، ولكن هذا لا يهم فلن يسمعها أحد غيري علي أي حال!
ها هي الإبرة اللعينة تعود لتنغرز في أنسجتي من جديد ...
أما من نهاية لهذا العذاب يا إلهي!!!
ورغم كل آلامي احتملت، وصبرت كالعادة من أجل صديقي (محمد ) .... فأنا أيها السادة البنطلون الوحيد الذي يملكه!
نعم هذه هي الحقيقة، فمنذ تخرج (محمد) العام قبل الماضي من كلية الهندسة بعد عناء سنوات هذه الدراسة العملية – التي تستحق عن جدارة اسم السنوات العجاف – لم ينجح للأسف في العثور علي عمل مناسب، أو حتى غير مناسب ! فحتى عندما تنازل عن أمله في الحصول علي عمل بمؤهله الجامعي، لم يستطع احتمال الإهانات المتواصلة التي كان يتلقاها في أي عمل بسيط من الأعمال العديدة التي التحق بها، من رؤسائه الذين يكاد بعضهم يعجز عن فك الخط! والنتيجة أن كرامته قد أبت عليه أن يكمل العمل لأكثر من أسبوع واحد، ليتركه وهو محطم الآمال، فاقد الثقة في كل ما حوله، من حوله..
ولكن والدته الطيبة كانت تستقبله دائما بكل حبها، وحنانها لترفع من معنوياته وتعيد إليه الأمل، فيعود للبحث من جديد بلا جدوى حتى بليت ملابسه التي لا يملك غيرها، والتي أنا جزء هام منها بالطبع!
انتهت الأم الطيبة من إصلاح الأجزاء التي تمزقت فيّ بفعل القدم، وكثرة الاستخدام... وها أنا بعد الغسيل والكي أصبحت أمت من جديد بصلة لعالم الملابس.
كم فكرت في الانهيار، والاستسلام لتلك الآلام والتمزقات التي تملأني، ولكني كنت أعود وأتذكر (محمد) المسكين الذي لا يملك من حطام الدنيا سواي ، فأضطر للتحامل علي نفسي وأخضع مستسلما لمحاولات الأم المستميتة لرتقي وإعادة رونقي إليّّ .
كنت في أجازة بدأت منذ فترة عندما عاد (محمد) يوما إلي المنزل بعد جولة بحث فاشلة أخرى، وكان يائسا ومحطما حتى أنه قد حبس نفسه في المنزل منذ ذلك الحين، ورفض أية محاولات من أسرته أو أصدقائه لحثه علي الخروج من حجرته، وعدم الاستسلام لليأس حتى لا يدمر نفسه.
ولكن منذ عدة أسابيع زاره أحد أصدقائه، و أخبره نبأَ جعله يتقافز في الهواء من الفرح، فقد أنبأه صديقه هذا بأن أحد أقاربه من الأغنياء قد افتتح فرعا آخر لشركته الهندسية، وعينه هو فيها ، وطلب منه ترشيح عدد من زملائه المهندسين الشباب للعمل معه في هذا الفرع الجديد. وقد وقع اختيار الشاب علي (محمد) ضمن مجموعة المهندسين الذين انتقاهم.
وهكذا، خرج (محمد) من قوقعته، وها هو الآن يستعد للذهاب لعمله بعد أن انتظم فيه، وسعد به جداً لأنه قد أعاد له ثقته في نفسه، وفي قدراته كمهندس، بالإضافة إلي طموحاته وآماله كشاب في مقتبل العمر.
ولكنه اليوم كان أكثر سعادة ومرحاً وهو يداعب أمه قبل الذهاب إلي العمل، فقد كان هذا هو اليوم الموعود ... يوم تسليم الأجور للعاملين بالشركة.
وبالطبع كنت سعيدا من أجله، حتى كدت أبكي من الفرح. ولكن سرعان ما استبد بي القلق، وعصفت بنفسي الهواجس عندما خطر ببالي فجأة أن أول ما سيفعله (محمد) بمجرد استلامه لراتبه الكبير من الشركة هو.....
قطع أفكاري صفير إعجاب طويل انطلق من بين شفتي (محمد)، وهو يتوقف فجأة أمام واجهة أحد المحال التجارية.... وتحولت شكوكي في لحظة إلي يقين ، فقد كان متجرًا للملابس الجاهزة!
وبينما أخذ (محمد) يتأمل بانبهار تلك القمصان والبنطلونات الفاخرة، ويتخيل شياكته وأناقته عندما يرتدي تلك الثياب... كانت الدموع تسيل مني انهاراً، وأنا أتخيل نفسي وقد تحولت إلي خرق قماش بالية تستعملها أم (محمد) في مسح ذرات الغبار من على قطع الأثاث ،أو في تنظيف المطبخ!!
- أهذا هو جزاء إخلاصي و احتمالي طوال تلك السنوات؟!
- أهكذا يكافأ الأصيل في هذا الزمن!!.... واخسارتاه!
....................................................................
- وهكذا يا أطفالي كان تعييني في تلك الشركة هو الخطوة الأولى التي ساعدتني على بناء مستقبلي، وانهال عليّ الخير بعد ذلك بسبب اجتهادي في عملي، وتقدير صاحب العمل لمجهودي، حتى أصبحت أمتلك بدلا من القميص والبنطلون اليتيمين، صواناً كاملا يعج بأحدث صيحات الموضة من الثياب، وودعت أنا وأسرتي أيام الفقر للأبد.
ابتسم (محمد) و هو ينطق بهذه الكلمات موجها إياها لأولاده ، ثم اتجه إلي صوان ملابسه وفتحه مضيفاً:
- ولكني لم أنس ملابسي القديمة، ولم أتخل عنها، فخصصت لها مكاناً دائماً في صوان ملابسي، لكي أتذكر كلما نظرت إليها ما عانيته سابقا ، فيكون هذا حافزاً دائماً لي لمساعدة الشباب الذين يمرون بنفس الظروف التي عايشتها من قبل، ولأن هذه الثياب عزيزة جداً على نفسي، فقد احتملت معي الظروف الصعبة التي مررت بها في بداياتي، قبل أن يرزقني الله بما أرفل فيه من نعم الآن.
امتلأت نفسي بالفخر- وأنا معلق علي مشجب أنيق جنباً إلي جنب مع أحدث الصيحات من الثياب الأنيقة - لأني أنتمي لهذا الرجل ...
الأصيل !